السعودية الجديدة وعصر الانفتاح الثقافي
كانت وعلى مر العقود الماضية إشكالية الـ"جندر" حاضرة وبصورة كبيرة في كل مناحي الحياة اليومية للمدينة السعودية. حيث كانت جميع المشاريع التنموية والتعليمية والوزارية وحتى التجارية قائمة على تطبيق مبدأ الفصل الجنسي بين الرجل والمرأة بصورة صارمة، حتى كانت هذه الشخصية الجندرية أصبحت هي ما يشكل الصورة الذهنية والهوية الاجتماعية للمدينة السعودية. كان لكل هذا انعكاس بلا شك على طبيعة التفاعل الإنساني في الفضاء العام في المدينة السعودية، المفارقة هنا تأتي من كون ان "الرصيف" في المدينة السعودية خلال تلك المرحلة كان يشكل الفضاء العام الوحيد الذي يمكن اعتباره كفضاء "مختلط" ولكن محاطا ببيئة مبنية لا تخلوا من القيود الجندرية وكذلك بيئة اجتماعية اعتادت الفصل الجنسي كنمط احادي للحياة. هذه الحالة الجندرية للرصيف تمثل الارتباك الاجتماعي والعمراني الذي كان يعيشه الفضاء العام في المدينة السعودية وهي ما أدت الى وجود شرخ في التفاعل الإنساني والاجتماعي مع الفضاء العام كما انها أحد العوامل التي انتجت للمدينة السعودية فضاءات عامة مترددة ومتوترة وخاليه من العفوية الاجتماعية وهو في الحقيقة ما شكل حالة من "العزلة الاجتماعية". ولذلك كانت إشكالية الـ"الجندر" في الفضاء العام خلال العقود الماضية تشكل احد اكبر التحديات الاجتماعية لأي محاولة عمرانية تسعى لأنسنة الفضاء العام في المدينة السعودية. وهو ما كان يطرح الكثير من التساؤلات العمرانية عن ماهية الفضاء الإنساني وماهي اشكال الاحتواء الاجتماعي في المدينة الجندرية.
تعيش المدينة السعودية اليوم انفتاحا ثقافيا واجتماعيا غير مسبوق، وسأركز في هذه الخاطرة العمرانية على بعض التحولات في الفضاء العام للمدينة الرياض والتي صاحبت هذا الانفتاح الاجتماعي والثقافي خلال السنوات الأخيرة الماضية والذي من شأنه دعم حضور المرأة كشريك اساسي في التنمية، فبدى الحضور النسائي في المحافل الرسمية وبيئات العمل جزءا لا يتجزأ من طبيعة الحياة اليومية في المملكة العربية السعودية. صاحب هذا الانفتاح الثقافي والاجتماعي الذي تقوده الدولة تغييرات جذرية في التشريعات والقيود العمرانية التي كانت تعزز من حضور إشكالية الجندر في الفضاء العام. فعلى سبيل المثال، لم يعد تطبيق الفصل بين الجنسين في المطاعم والمقاهي إلزاميا، كما ان القيود التي كانت تحد من حضور المرأة في الجلسات الخارجية للمطاعم لم تعد تُفرض هي الأخرى. فهل انتهت إشكالية الجندر والعزلة الاجتماعية في الفضاء العام؟
قد يكون من المبكر الخروج بقراءة جازمة بانحسار إشكالية الجندر في الفضاء العام طالما انها مازالت حاضرة في الفضاء الخاص، وهذا طبيعي حيث ان التحول في التشريعات أكثر مرونة وسرعة مقارنة بالتحول الثقافي والسلوكي للإنسان. ولذلك فإني اعتقد ان مظاهر الاشكال الجندري اليوم في الفضاء العام قد تكون ما تزال حاضرة ولكن بصورة اقل حدة وقد تأخذ اشكالا وصورا مختلفة عن السابق وهو ما يدعو الباحثين الى التوسع في قراءة أعمق للتحولات السلوكية والتفاعلات الجندرية للفضاء العام في عصر الانفتاح الثقافي الذي تعيشه المدينة السعودية.
لكن ما اود الإشارة اليه في هذه الخاطرة هو ان هذا التغير في القيود الجندرية بلا شك ساهم في بروز أنماط جديدة من "الفضاءات العامة" في مدينة الرياض وهو باعتقادي ما يستحق الكثير من الاهتمام.
انحسار القيود الجندرية وبروز "الفضاء العام" الجديد
صاحب الانفتاح الثقافي والاجتماعي وكذلك الاتجاه العام نحو أنشطة ومواسم ترفيهية في فضاءات مدينة الرياض زخما كبيرا، حيث بدت الفضاءات المستخدمة في موسم الرياض الاماكن الأكثر جذبا للسكان، قد يكون لإنحسار القيود الجندرية سبب في ذلك. هذا الزخم الكبير أعاد الى الأنظار أهمية الفضاء العام كمكون عمراني في المدينة. يجب الإشارة هنا الى انه وبالرغم من هذا الزخم فمازال الفضاء العام "التقليدي" في مدينة الرياض متأخرا ولم يقدم لسكان المدينة البيئة العمرانية الجاذبة والتي تتفاعل مع هذه المتغيرات الثقافية والاجتماعية. ولكن الجدير بالاهتمام في هذه المرحلة هو ظهور أنماط عمرانية جديدة من مشاريع المجمعات التجارية والتي تحاول إعادة انتاج "الفضاء العام"، حيث تقوم هذه المشاريع بمحاكاة الجودة العمرانية للفضاء العام من خلال توفير ثلاث عناصر تصميمية رئيسية، ممشى، مطاعم ومقاهي مطلة على الممشى، وعناصر مائية وذلك في فضاء مفتوح. شهد هذا النوع من الأنماط العمرانية اقبالا شعبيا حيث أصبح بعضها يشكل مقصدا شبه يومي لسكان مدينة الرياض، حتى أطلق عليها البعض مسمى "الفضاءات العامة الجديدة"، وأصبح يُنظر اليوم للمطور العقاري بأنه من يقود صناعة الفضاء العام بالمدينة.
عزيزي القارئ عزيزتي القارئة، يجب النظر بصورة عميقة للانعكاسات العمرانية والاجتماعية الناتجة عن هذا النوع من "الفضاءات" وخصوصا ما إذا كانت هي ما يشكل الصورة الذهنية لـ "الفضاء العام" في المدينة. في الحقيقة لا يمكن اعتبار هذه الأنماط العمرانية - فضاءات عامة - فهي بالأصل فضاءات "خاصة" مملوكة لمشاريع تجارية. لكن الاشكال لا يتوقف فقط عند التسمية والاصطلاح، فهذا النوع من الأنماط العمرانية وبالرغم من محاولته لمحاكاة الجودة العمرانية للفضاء العام إلا انه في الحقيقة ما يقوم به هو عملية "تسليع الفضاء العام" – وهنا يمكن الاشكال باعتبارها "فضاءات عامة جديدة" لأن ذلك يكرس من الصورة التسليعية والاستهلاكية. أي ان هناك قيمة مادية نظير التواجد في هذه الفضاءات، فمثلا يندر ان تجد في هذه الفضاءات أماكن "مجانية" للجلوس وانما في الغالب تكون مرتبطة بنشاط تجاري، وهو ما يعني ان حضور الانسان لهذه الفضاءات مرتبط بقدرته المادية. ولذلك فهي - أي تلك الفضاءات - تقدم صورة أخرى من صور العزلة الاجتماعية وذلك من خلال تقديم أنماط عمرانية قائمة على "الحصرية الاجتماعية – Socially Exclusive Spaces" من خلال جذب واستهداف طبقات معينة من المجتمع وهم في الغالب من يشكل القوة الشرائية.
أذا كانت إشكالية الجندر في العقود الماضية كونت صورة ذهنية للفضاء العام بأنه فضاء ذكوري غير مرحب بالمرأة، فاليوم ومع انحسار القيود الجندرية وظهور هذه الأنماط العمرانية الجديدة فإني أخشى ان نقوم بإعادة انتاج شكل جديد من اشكال العزلة الاجتماعية المبنية على الطبقية الاقتصادية. فالفضاء العام يجب ان يُشكل البنية التحتية الاجتماعية لمجتمع المدينة والذي من خلاله تتم الكثير من التفاعلات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية وكذلك التربوية، فالفضاء العام يجب ان يكون المكان الذي نلتقي فيه بالآخر "المختلف". ولذلك يجب ان يكون الفضاء العام جامعا وحاضنا ومحتفيا بالتعدد الاجتماعي والثقافي والاقتصادي لمكونات المجتمع المختلفة.
في الختام، انا لا ادعو الى تحجيم هذا النوع من الأنماط العمرانية، فالنمو الاقتصادي والمشاريع التجارية هي جزء رئيسي في المدينة ويجب دعمها وتشجيعها، ولكن يجب كذلك الانتباه للانعكاسات العمرانية والاجتماعية التي تولدها الرأسمالية الصرفة والا تكون هي من يقود الحراك العمراني. سأتطرق مستقبلا في خاطرة عمرانية أخرى اتحدث فيها عن أهمية تكوين سلسلة من الـ "حقوق العمرانية" والتي تحفظ لإنسان المدينة حق تفاعله مع المكونات العمرانية.
Comments