top of page

العمران الجديد، لمن؟



قامت حركة العمران الحديث والتي تسعى الى إعادة احياء البعد الإنساني في المدينة مع بداية تأسيس مجلس العمران الحديث في عام ١٩٩٣. حيث يقوم العمران الحديث في مبادئه الأساسية على اهداف تسعى الى الارتقاء بجودة الفضاء العام في المدن والمجاورات السكنية لجعلها آمنه وصحيه وقابله للعيش ونابضة بالحياة ومستدامه بيئيا واجتماعيا، حيث يسعى العمران الحديث الى وضع الانسان ومتطلباته على رأس قائمة أولويات الاجندة العمرانية وذلك سعيا لتقديم مدن صديقة للإنسان.


في الحقيقة فإن هذه المبادئ والتوجهات تعود في أصولها الى حقبة الى الستينات والسبعينات من القرن الماضي وتتقاطع في اهدافها مع عمرانيين ومؤرخين ونشطاء في المجال الحضري كـ جين جاكوبس ولويس ممفورد وكريستوفر اليكساندر ووليام وايت ويان جيل وغيرهم. حيث كانوا في الحقيقة هم من وضع اللبنات الأساسية لمنظور عمراني يرتكز ويبدأ من الانسان وهو ما كان يخالف الوضع السائد في اوئل القرن العشرين وفي فترة حداثة العمارة والتخطيط، حيث كانت الآله والصناعة والتطور التقني هي الأدوات التي حددت ملامح وشكل المدن وهو ما اظهر اليوم لنا مدن تعزز الفردانية في المعيشة والتنقل، ومدن مكتئبة عمرانيا غير ودوده تغيب فيها العفوية الاجتماعية.


العمران الحديث و"حتمية" الصواب

يقدم العمران الحديث نفسه بشكل المنقذ وسفينة النجاة من الانهيار العمراني للمدينة بصورتها الحالية، حيث تؤطر مبادئه العمرانية محددات الصواب والخطأ بصوره قطعيه في التعامل والاستجابة مع المشاكل التي تواجه المدينة. ترتكز مبادئ العمران الحديث على ان نجاح اي بيئة مبنية او مجاورة سكينة قائم على قابليتها للمشي، ارتباط نسيجها العمراني، تنوع استخدامات المباني، تعدد أنواع واحجام مبانيها، وان تكون ذات جودة بصرية وحضرية، وكثافه سكانية مرتفعة، وذات خيارات متنوعة في وسائل النقل، وان تحقق مبادئ الاستدامة، وان ترتقي بجودة الحياة للسكان.


سأعود قليلا الى أصول الأشياء وسأتطرق هنا على سبيل المثال الى مبادئ الجودة العمرانية الاثني عشر ليان جيل والتي اثرت في تشكيل مبادئ العمران الحديث حيث يقدمها في كتابه الحياة بين المباني – وهو في الحقيقة أحد اهم مؤلفاته حيث يعد يان جيل من الأصوات المهمة التي تنادي باستعادة البعد الإنساني في المدن منذ ستينات القرن الماضي. تقوم مبادئ الجودة العمرانية ليان جيل على أساس تقييم مستوى التفاعل الإنساني من خلال الأنشطة الحضرية في الفضاء العام مع الجودة المكانية للبيئة المبنية وذلك من خلال: ١- قياس مستوى شعور المشاة بالأمن في البيئة المبنية، ٢- قياس مستوى الراحة لمستخدمي الفضاء العام وما تقدمة البيئة المبنية من خيارات للممارسة الأنشطة الحضرية المختلفة، ٣- وقياس مستوى المتعة في الفضاء العام ومنها الجوانب المناخية والجودة البصرية. قام يان جيل بالتوصل الى هذه المبادئ من خلال دراسة مستفيضة وتحليل عميق لفهم العلاقة بين السلوك الاجتماعي والجودة العمرانية للفضاء العام عبر سنوات من الدراسة والرصد الميداني لمختلف المدن "الاوروبية". والجميل هنا هو الجمع بين النظرية والتطبيق فيما قدمه يان، حيث اثرت مبادئ الجودة العمرانية التي قدمها بصورة كبيره على استعادة البعد الانساني لوسط مدينة كوبنهاجن في تسعينات القرن الماضي - والتي تعد اليوم أحد المدن الرائدة في مجال "أنسنة المدن" - ومن ثم تطور تأثير هذه مبادئ الجودة العمرانية حتى تم اعطاءها الطابع "الكوني" – حيث تم تبنيها وإعادة تقديمها وتطويرها ضمن مبادئ العمران الحديث. ويجدر الذكر هنا انه تم تكريم يان جيل في صيف ٢٠١٨ وحصوله على ميدالية أثينا من قبل مجلس العمران الحديث كأحد أهم الرواد والمؤثرين في هذه المدرسة العمرانية.


من المهم جدا الإشارة هنا الى ان أي مبادئ عمرانية هي نتاج لعمل انساني تم في حقبة زمنية معينة كانت خاضعة ومتأثره بسياقات فكرية وثقافية واقتصادية وجغرافية وسياسية وكذلك انماط معيشية وأساليب حياة ظهرت وشكلت الصورة العامة للحياة اليومية في المدينة وآلية الاستجابة لمتطلباتها في تلك الحقبة الزمنية. وبالتالي فهي -أي تلك المبادئ العمرانية- لا يمكن قطعا أن تأخذ الصفة "الكونية" بصورة ثابتة ودائمه وخصوصا إذا ما تم اخضاعها الى العامل الزمني المتغير.


الاشكال الذي أحاول الإشارة اليه هنا ليس فيما يقدمه العمران الحديث من اهداف عمرانية نبيلة قد نتفق عليها اليوم، ولكن الاشكال الحقيقي يكمن في جانبين. أولا، حالة "حتمية الصواب" والتي يعطيها البعض لمبادئ العمران الحديث وكذلك فيما يتم طرحة في بعض المؤلفات المنشورة مؤخرا - على سبيل المثال Global Street Design Guide – وغيرها من الكتب التي يعاد فيها تقديم مبادئ العمران الحديث على شكل حلول تصميمية وقوالب عمرانية جاهزة. ثانيا، حالة "الاستنساخ العمراني" في التعاطي مع ما يسمى بـ"أفضل" الممارسات العالمية في التصميم العمراني.


إشكالية الاعتماد المطلق على ما يسمى بأفضل الممارسات العالمية في التصميم العمراني هي في تأطير الصورة الذهنية للجودة العمرانية بشكل وصورة ونمط محدد. لأن الإشارة لهذه الممارسات لا يخضع في الغالب الى قراءة نقدية لمسببات القرارات التصميمية واستجابتها للمشاكل العمرانية ولا الى قراءة تنظر الى السياق الثقافي والاجتماعي الذي تتفاعل معه، ولكن يتم اختزالها في النظر الى التكوين المادي والشكلاني للمكون العمراني فقط. وبالتالي ما ينتج عن ذلك هو حالة الاستنساخ العمراني واستيراد لأفكار لا تتفاعل بالضرورة مع السياق الثقافي والاجتماعي والبيئي المحلي.


عمران الحياة اليومية والتغير المستمر

عزيزي القارئ عزيزتي القارئة، انا لا اعترض هنا على ما يقدمه العمران الحديث من مبادئ عمرانية تسعى لمحاولة استعادة البعد الإنساني داخل المدن طالما انها ذات صبغة "تجريدية" خاضعه للتأويل وإعادة التعريف، ولكن صلب اختلافي هو عملية ترجمة هذه المبادئ الى قوالب تصميمية جاهزة تؤطر قرارات التصميم العمراني وتأخذ الصفة الكونية.


الشيء الوحيد الذي يمكن ان يأخذ الطابع الكوني هو حالة "التغير المستمر" للمدينة والذي يعيد تشكيل وصياغة المكون الاجتماعي والثقافي لمجتمع المدينة والذي بدورة يؤثر على إدراك الانسان وتفاعله مع الفضاء العام. وهذا ما يستوجب علينا كعمرانيين ممارسين الا نتعامل مع مبادئ العمران الحديث وغيرها من نظريات وتوجهات عمرانية على انها مسلمات لا يمكن مفاوضتها، بل يجب أن تكون لنا النظرة النقدية التي تدفعنا وبشكل مستمر إلى أن نعيد تعريف تلك المبادئ ضمن السياقات الثقافية والاجتماعية والزمنية المحلية.


سأقوم لاحقا بكتابة خاطرة عمرانية أركز فيها الى عمران الحياة اليومية (عمران الناس) كمنهج في التصميم العمراني.


Walkscapes_logo_linkedin.jpg
bottom of page