top of page

أنسنة الفضاء العام والمرأة 

تأثير الأعراف "الجندرية" على السلوك المكاني والتخطيط الحضري للفضاء العام بمدينة الرياض

text

 

ادى التخطيط الحضري خلال القرن الماضي والمبني في اولويته على الاستجابة للتسارع في النمو السكاني والتوسع في الرقعة العمرانية والاهتمام في مرونة حركة النقل المروري إلى تنمية عمرانية على حساب الجوانب البيئية والإنسانية، وبمرور الوقت لم تعد جودة الفضاء العام ذات اولوية في العمل التخطيطي خلال تلك الحقبة، مما ادى إلى انحسار الحيز المكاني لممارسة الانشطة الحضرية لسكان المدينة. انعكس على ذلك تدني الجودة الحضرية حيث أصبحت المدن طاردة لسكانها. وعليه، فإن "أنسنة المدينة" تعتبر من المفاهيم العمرانية والتي تم تبنيها مؤخرا من قبل العديد من المدن في جميع انحاء العالم، وهي تعنى بإعادة تعزيز البعد الانساني في الفضاء العام من خلال التخطيط والتصميم الحضري وذلك للمساهمة في بناء مدن صديقة للإنسان. الفضاء العام الذي يرتكز على الانسان يعرَف بأنه آمن،حيوي ونابض بالحياة، ذو وصولية عالية، يشجع على المشي وممارسة الانشطة الحضرية حيث يقضي فيه الناس اوقات فراغهم ويجتمعون مع الاصدقاء، ويشجع كذلك على الإلتقاء بالآخر مما يزيد لحظات المصادفة العفوية بين افراد المجتمع. وعليه، فإن أدبيات التصميم الحضري تعتبر أن مفهوم الفضاء "الجامع"، أو بمعنى آخر شمولية الفضاء العام – وهي قدرة الناس على الوصول إلى الفضاء العام واستخدامه بشكل حر بغض النظر عن أعمارهم أو أجناسهم أو طبقاتهم الاجتماعية والاقتصادية أو أعراقهم أو أديانهم – قيمة أساسية وأحد اهم خصائص أنسنة الفضاء العام. وعلى طول هذا الخط، فإن بحوث وممارسات التصميم الحضري تفترض بأن الخصائص المكانية للفضاء العام هي المحفز والمؤثر الاساسي على السلوك المكاني للمستخدمين مع افتراض أن التصميم هو سبب رئيسي في حدوث السلوك الاجتماعي بين مستخدمي الفضاء العام. لذلك، فإن ممارسات أنسنة المدن في غالبها قائمة على مبادرات لتقديم فضاءات عامة في غالبها مبنية على مبادئ تصميم حضري "عالمية"، وهو ما يوضح غياب لفهم يشمل دور الجوانب الاجتماعية والثقافية في تشكيل السلوك المكاني والاجتماعي، حيث يصعب تصميم مدن صديقة للإنسان دون فهم المجتمع من الناحية السلوكية والثقافية.

تهدف هذه الأطروحة إلى المساهمة في فهم أفضل للأبعاد المكانية والاجتماعية والثقافية للفضاء العام المرتكز على الإنسان. تعتبر هذه الاطروحة بداية لدراسة استقصائية يقوم فيها الباحث في استكشاف تأثير المعايير "الجندرية" على السلوك المكاني والتخطيط/التصميم الحضري للفضاء العام بمدينة الرياض. تعتبر مدينة الرياض أحد اكثر مدن العالم صرامة من الناحية "الجندرية" حيث تطبق المدينة مبدأ الفصل الجنسي بين الرجال والنساء كنمط للحياة الاجتماعية وهو ما يلعب دورا مؤثرا في تقليص فرص الرجال والنساء لإستخدام الفضاء العام. تحظر الموروثات الثقافية والاجتماعية وكذلك التقاليد الدينية في المملكة العربية السعودية مفهوم "الإختلاط" في الفضاءات الحضرية، الجامعات، المدارس، بيئات العمل، وحتى أماكن الترفيه والمطاعم والمقاهي، حيث يستمد هذا الحظر قيمته الاجتماعية من فتوى المؤسسة الدينية في المملكة العربية السعودية وكذلك من الموروث الثقافي والاجتماعي. بالرغم من أنه بالإمكان وصف مدينة الرياض بالمدينة "الجندرية" التي تنعدم فيها فرص الإلتقاء العفوية بين الرجال والنساء، إلا أن الرصيف يبقى هو الفضاء العام الوحيد الغير خاضع بشكل مباشر لمبدأ الفصل الجنسي. لذلك، تأخذ هذه الاطروحة الرصيف في مدينة الرياض كحالة دراسية تقوم فيها في محاولة لفهم الحالة السلوكية والثقافية في الرصيف كفضاء عام "مختلط" وسط مدينة يعتبر فيها الفصل الجنسي هو نمط الحياة الاجتماعي السائد.


إعتمدت الدراسة على نموذج البُعد الثقافي للتخطيط العمراني – culturized planning model – كإطار تحليلي استقصائي لفهم أفضل لتأثير المعايير "الجندرية" على استخدام وتخطيط/تصميم الرصيف بمدينة الرياض. ولقد استخدمت هذه الدراسة الأساليب الكمية والنوعية كأدوات لتحليل المعلومات والوصول إلى الأهداف التالية:

· إستكشاف دور المعايير "الجندرية" والتقاليد الدينية على ممارسة المشي في الفضاء العام بين الرجال والنساء.

· تحليل العلاقة بين (الخصائص المكانية لتصميم الرصيف) و(المعايير "الجندرية") وتأثيرها على استخدام الرجال والنساء للرصيف، وذلك لفهم الرصيف كفضاء عام "مختلط" من الناحية السلوكية والثقافية والمكانية.

· إستكشاف التحديات التي واجهت أمانة مدينة الرياض في مبادرات أنسنة المدينة خلال العقد الماضي. وكذلك إستقصاء عما اذا كانت تلك المبادرات قد أسفرت إلى خلق فضاءات عامة "جامعة/شمولية" ووعي حضري اجتماعي يمَكن الرجل والمرأة من إستخدام الفضاء العام على حد سواء.

 

تبين نتائج الاطروحة أن العزلة الاجتماعية والمكانية تمثل تحديا رئيسيا لـ"أنسنة" الفضاء العام لمدينة الرياض. فبالرغم من مبادرات أمانة مدينة الرياض في خلق فضاءات تشجع المستخدمين على ممارسة الانشطة الحضرية، تبقى الفضاءات العامة بالمدينة في غالبها "جندرية" خصوصا من الناحية السلوكية والثقافية. على سبيل المثال، فالفضاء العام التقليدي كالرصيف والشارع يعتبر من الناحية الاجتماعية مكان للرجال، أثرت هذه الصورة الذهنية للفضاء العام سلبا على إرتياح المرأة عند ممارستها للمشي او عند وجودها في أوقات معينة على الرصيف حيث يصفن بعض المشاركات في عينة الدراسة هذا "بالخطأ" او "العيب". ولذلك، فقد أصبحت ممارسة المشي في الفضاء العام تضع المرأة في مواجهة مستمرة مع القيود والمعايير الجندرية، على سبيل المثال، ثقافة "العيب" تحدد قيود زمانية ومكانية تحد من فرص حضور المرأة في الفضاء العام، كأن تتجنب المشي لوحدها اوالتواجد في ساعات الليل. بالإضافه الى ذلك فالعرف الاجتماعي يشكل ايضا الصورة الذهنية "المقبولة" اجتماعيا للمظهر الذي تخرج فيه المرأة للفضاء العام. ولذلك فإن هذه المعايير الجندرية قد ساهمت في تشكيل شخصية الفضاء العام في الرياض كفضاء "ذكوري"، وهو ما يعكس انحسار الحيز المكاني للمرأة في المدينة حيث أصبحت الفضاءات المغلقة كمراكز التسوق عبارة عن "ملاجئ حضرية" تمارس فيها المرأة السعودية الكثير من الانشطة الحضرية والاجتماعية. تسلط الدراسة أيضا الضوء على الصورة الذهنية لمراكز التسوق كفضاءات "انثوية" وكذلك على "التسوق" كنشاط حضري يشرعن وجود المرأة في المكان.


قامت الدراسة أيضا بتحليل العلاقة بين المعايير الجندرية والخصائص المكانية على إستخدام الرجال والنساء لرصيف شارع التحلية كونه احد الظواهر الحضرية الحديثة بمدينة الرياض. توضح النتائج أنه وبالرغم من التصور الذهني للرصيف كفضاء عام ذكوري إلا أن النساء يشكلن ما يقارب نصف عدد زوار الرصيف. لكن، يبقى استخدام المرأة الفعلي للرصيف محدود جدا حيث أن وجودهن يكون في الغالب محصور في الفضاءات الداخلية للمحلات التجارية. تبين الدراسة أن تكدس الأنشطة التجارية كالمطاعم والمقاهي بالاضافة إلى وجود تشريعات تمنع المرأة من إستخدام أماكن الجلوس الخارجية يشكل أحد أهم العوائق أمام إستخدام المرأة للرصيف وممارسة الأنشطة الحضرية. وعليه، فتوضح نتائج رصد السلوك المكاني للمرأة ان 18% فقط من مستخدمات رصيف التحلية يقمن بممارسة المشي والتنزه كنشاط حضري، في حين أن البقية يتنقلن من المحلات التجارية إلى السيارة او العكس بشكل سريع ويتجنبن التواجد بشكل ملفت على الرصيف. تجدر الإشارة هنا إلى أنه وبالرغم من الحالة المرتبكة في استخدام الرجال والنساء لرصيف التحلية، إلا أنه يشكل حالة حضرية فريدة من نوعها حيث أنها تضع الرجال والنساء في فضاء عام "مختلط" وهو ما زاد من الفضول الاجتماعي بين الجنسين. حيث أن الرصيف أعطى فرصة اكبر للإتصال البصري بين الرجال والنساء في فضاء مشترك وهذا ما يجعل الرصيف فضاء عام تتم من خلاله مفاوضة الاعراف والمعايير الجندرية وإعادة تعريفها بشكل مستمر – تعرض الدراسة مجموعة من الممارسات السلوكية المكانية والتي تتم من خلالها مفاوضة العرف الاجتماعي والثقافي.

توضح الدراسة أن اشكالية أنسنة الفضاء العام بمدينة الرياض تكمن في عدم القدرة على كسر العزلة المكانية والاجتماعية للمرأة. حيث أنه وبالرغم من مبادرات أمانة مدينة الرياض في خلق فضاءات عامة خاضعة لمعايير التصميم العالمية وافضل الممارسات في التخطيط الحضري، إلا أن استخدام الرجال والنساء للفضاء العام من الناحية السلوكية والثقافية مازال مرتبكا ومترددا. ولذلك، تشرح الدراسة أن العزلة المكانية والاجتماعية للمرأة ليست نابعة فقط من ندرة الفضاءات العامة بالمدينة، بل هي مستمدة أيضا من الصورة الذهنية لذكورية الفضاء العام، جندرية التشريعات في الفضاء العام والتي تحد من استخدام المرأة، بالإضافة إلى انعدام تشريعات تمنع التحرش. وعلى الجانب الآخر، تسلط هذه الاطروحة الضوء إلى أن أنسنة الفضاء العام بمدينة الرياض بحاجة إلى شرعنة "الإختلاط" وذلك من خلال إدارة حضرية للفضاء العام يُضبط من خلالها السلوك المكاني ويحافظ فيها على "شمولية" الفضاء العام لجميع المستخدمين. وعليه، فإن هذه الأطروحة تقترح بأن أنسنة الفضاء العام ليست فقد مسألة تخطيط وتصميم فضاءات عامة وإنما هي عملية مستمرة تشمل تقديم وإدارة الفضاء العام.

 

في خاتمة الاطروحة، قدمت الدراسة تصورا نظريا للدراسات المستقبلية في مجال أنسنة المدن وكذلك توصيات عملية في ممارسات التصميم الحضري للمساهمة في خلق بيئات حضرية "جامعة/شمولية" تشجع الرجال والنساء على إستخدام الفضاء العام بشكل حر.




Walkscapes_logo_linkedin.jpg
bottom of page